" وحيـدةٌ أنـا .. لا أخٌ لي ولا أختٌ.. حتى الأم والأب محرومةٌ منهم.. فأمـي يا سـادة رحـلت بعد أن أتعبتها ساعات الانتظار وأدمت قلبها أيام الحنين ... وأبـي هناك في سـجون المـوت ..رمـوه في زنزانةٍ باردة لا نور فيها ولا شمس.. و لم أطفئ الشمـعة الأولى...لم أره في حياتي إلا مـرة واحدة .. لم تستطع طفولتي آنذاك من الاحتفاظ بتفاصيلها في ذاكرتي.. قسماته أحفظها من صـورة أضمها إلى صدري ويحتضنها قلبي..
ضربوني بسوطٍ موجعٍ :" ممنوعـةٌ أنتِ من الزيارة"..
خطف المـوت أمي فحرامٌ أن يخطف السجّان والدي ..أناملي الصغيرة تشتاق لمُعانقة حنانه ..والخـروج بصحبته فأكتشف العالم بحبٍ وأمل .. قولوا لإسرائيل أن تُفرج عن أبي.. وعن أسـرى يموتون في اليـوم ألف مـرة ... أريد أبي.. أريد أبي".
بدموعها والتنهيدات الحارة خاطبت الطفلة جُمانة علاء أبو جـزر ابنة العشرة أعـوام أحرار العالم الذي يحتضنون أطفالهم كل مساء ،ويقصون على مسامعهم حكاية ما قبل النوم وبقُبلةٍ دافئة يودعونهم..
أريد أبي
بحروفٍ تفوق سنوات عمرها روت "جمانة" حكايتها لـ"أحرار ولدنا": " أنا ابنة الأسير علاء أبو جزر.. حرمتني منه إسرائيل منذ ولدت ، وأحفظ تفاصيل وجهه من خلال صورةٍ صغيرة أحفظها في قلبي.. لم أزره سوى مرةً واحدة عندما كنت في الثالثة من عمري".
وبصـوتٍ رقيق ممزوج بالألـم مضت تقول:" أطفال العالم ينعمون بأم وأب أما أنا فلا.. فأبي مُعتقل وأمي توفيت بعد ولادتي.. أمنيتي الوحيدة أن أراه وأناديه "بابا" كباقي أطفال العالم".
ودموعها تنهمر تباعاً أردفت: "أريد والدي ولا أكثر من ذلك ..لقد اشتقت إليه ..في كل صباح أُقبل صورته وأخبره عن حصولي على أعلى الدرجات في كافة المواد وأتخيله يحتضنني ويمنحني أجمل الهدايا"
بحزنٍ أكبـر من أيامها تابعت: "كم حلمت وأصحو من النوم وأجده بجواري.. يوصلني إلى المدرسة وينتظر لحظة رجوعي بشوق.. ويأتي العيد برفقته ويشتري الحلوى والفستان الجديد".
وكم تتوق جمانة لزيارة والدها داخل السجون ولكنهم في كل مرة يرفعون في وجهها سيفاً "ممنوعة أنت من الزيارة.. مرفوضة أمنياً". وتتقاطع أمنية جُمانة مع آلاف الأطفال في قطاع غزة الذين حرموا من رؤية أبائهم ولم ينعموا بزيارتهم منذ ما يزيد عن خمسة أعوام.
الطفلة جمانة أبو جزر تعيش برفقة جدتها صاحبة السبعين خريفاً وحدها بدون أبٍ أو أم وحتى إخوة وأخوات. والدتها توفيت إثر إصابتها بداء الوباء الكبدي والأب اعتقل عندما كان عائداً من السفر، مع والده المريض عام 2001 وحُكم عليه بالسجـن 18 عاماً.
جدتها أم علاء أبو جزر احتضنت الصغيرة بعد وفاة والدتها فكانت الأم والأب والجدة.. وأقصى أحلامها أن ترى ولدها وتطبع على جبينه قبلة الوداع ،وتحفه بالرضا وتسلمه الأمانة قبل أن ترحل وتغادر الدنيا. الجدة المُثقلة بالحنين والكثير من الأمـراض أشارت في حديثها أن زوجها والد الأسير علاء توفي وهو يُنادي على ابنه الاسير:" بعد وفاة زوجي لم يبق لنا أنا وجمانة معيل سوى الله ".
ومضت تقول: "بعد إصدار الحكم على ولدى سمحت إسرائيل لنا بزيارته أنا والصغيرة جمانة وكانت آنذاك صغيرة لا تعي ما يجري أمامها ، ولم تستيقظ إلا على صوتي وأنا أناديها بأن تنظر للجدار الزجاجي لترى والدها".
وأكدت أنه في الزيارة الثانية تفاجأت بأنها مرفوضة أمنياً ومرت الأعـوام قاسية على قلبها وبعد سنوات لا تزال إدارة السجن ترفع السوط ذاته :" ممنوعون من الزيارة."
وأكدت الجدة السبعينية أن جمانة طفلة ذكية جداً وحساسة تعي كل ما يدور حولها :" متفوقة في المدرسة ..دائمة السؤال عن أبيها وملامحه وكيف يبدو ..دموعها لا تصمت إذا ما شاهدت أحد الأطفال بصحبة أبيه يداعبه ويحتضنه."
أشارت الجدة إلى أنها لم تر ابنها منذ سبعة أعوام ولا تعرف أخباره إلا من ذوي الأسـرى الذين تصلهم الرسائل واستدركت بحزن دامع : " نريد رؤية أبنائنا والاطمئنان عليهم قبل أن نرحل عن الدنيا.. إسرائيل لن تحصل على الأمن والاستقرار إلا بعد إطلاق سراح فلذات أكبادنا" .
" إيه ما أصعبها من أيام بل ما أصعبها من سنوات " بهذه العبارة وصفت "أم الأسير علاء" سنوات غياب ولدها وتابعت :" تمر ليالينا بالآهات والأنين والعذاب ، فحياتنا حياة مملوءة بالقهر وأيامنا تمر بطيئة حزينة وكئيبة نعيش على أمل اللقاء بأولادنا ولكن كلما مر عام انفطرت قلوبنا وزاد خوفنا ."
وبدموعٍ ساخنة تنهمر من عينها أردفت: "أنا عجوز لا أقوى على الحركة.. والمرض سكن جسدي واحتل قلبي.. ولا أدري ماذا ستفعل جمانة من بعدي.. فلا أم لها ولا أخ وعمها الذي كان يرعاها معي استشهد".
بلهجةٍ تُثير الشجون تعترف:" لقد تعبت من هذه الحياة.. تعبت.. ولكن ماذا نملك غير الصبر الذي هو زادنا" وتستدرك :" أكثر ما يؤلمني حال الصغيرة جمانة لا أعرف ماذا تفعل من بعدي؟؟ من سيكون حضنها الدافئ؟؟.. ومن سيمسح دموعها ويخفف ألمها؟؟".
وبأسى تابعت: "كلما أصابتني وعكة صحية أقعدتني الفراش تمسك جمانة بيدي ولا تتركها، وتبكي بحرقة راجيةً مني ألا أرحل مثل أمها وأبيها وجدها وعمها.. وألا أتركها وحيدة في هذه الدنيا".